يقول الحق تبارك وتعالى : (( وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ )) ( يوسف : 105، 106) .
وصدق الله العظيم ، فإن من تأمل حال الناس اليوم ، رأى مصداق هذه الآية ماثلاً للعيان ، فما أكثر المسلمين اليوم ، وأما أقل الموحدين منهم ، ومن أراد الدليل والبرهان فليطف ببعض مساجد المسلمين ليرى العجب العجاب من التعلق بالقبور والأموات والغائبين ، وهذا من أعظم أسباب تخلف المسلمين ، وتأخرهم . فإن للتوحيد الصحيح أثراً عظيماً في بث روح العزة والأنفة في نفس صاحبه ، فلا يركع إلا لله ، ولا ينحني لغيره ، ولا يدعو إلا إياه ، ولا يدع فعل الأسباب المشروعة بحجة التوكل ، لأن توحيده الصحيح يقول له : إن التوكل الحق لا ينافي فعل الأسباب ، بل لا بنفك عنها ، وإلا صار تواكلاً لا توكلاً ، ولعل في قصة هذا الشاب اليمني أوضح مثال لما أقول :
يقول هذا الشابّ :
أنا شابّ من إحدى قرى اليمن ، نشأت منذ نعومة أظافري على المحافظة على الصلوات ، وحبّ المساجد ، فكنت – ولله الحمد – أقوم بالاعتناء بالمساجد وكنسها وتنظيفها .. وعلى الرغم من كثرة تردّدي عليها ، لم أجد من يقف بجانبي ، أو يعلّمني حتّى كيف أتوضّأ، فقد كنت لا أحسن الوضوء .
المساجد كانت مليئة بالمصلّين ، لكنّها مليئة بالجهل والشرك والأفّاكين ، كيف وإمام المسجد الذي كنت أصلّي فيه كان من كبار الصوفية الذين يجوّزون دعاء الموتى والالتجاء إليهم في الملمّات ( ) . ، ومن الذين يقولون بأن الله – جلّ جلاله موجود في كلّ مكان بذاته العليّة – تعالى الله عن ذلك – فالله عزّ وجلّ – بنصّ القرآن وإجماع السلف – في السماء مستوٍ على العرش استواء يليق بجلاله ، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل : (( َيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )) ) الشورى : 11 ) .
وكذلك كانت القرية مليئة بالسحر والشعوذة ، فمنهم من يدّعي علم الغيب ، ويستعين بالشياطين لمعرفة بعض المغيّبات الحادثة ، أمّا المستقبلية فلا سبيل إلى معرفتها ، ومنهم من يقوم بالشعوذة ورقية المرضى ، بالرقى الشركية الشيطانية ، ومنهم السحرة الذين يفرّقون بين المرء وزوجه ، ولكن ، حسبنا هذا الجزاء من الآية الكريمة :(( وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ )) ( البقرة : 102) .
. نشأت وترعرعت ، والجهل مخيّم على هذه القرية ، كنّا – أنا وأفراد أسرتي – نقوم بزيارة بعض القبور المعروفة ، وكذا دأب الأسر الأخرى ، فكنّا نطلب من الأموات ما لا يقدر عليه إلا الله ، والله أعلم هل هؤلاء الموتى من أهل الجنّة أم من أهل النار ، وكنّا نأتي في كلّ عيد نسلّم على هذه الأحجار ، ونقبّلها ، وبينما أنا في هذه الحال ، أتخبط في لجج الظلام ، إذ أتى شهر رمضان المبارك من عام 1412هـ ، وكنت في قرية أخرى غير قريتي ، فدخلت أحد المساجد السلفية ، فلفت نظري دولاب صغير قد وضعت فيه بعض الكتيّبات للاستعارة ، فاستعرت بعضها ، ثمّ أعدت الكرّة ، حتّى قرأتها جميعاً في فترة وجيزة جدّاً ، وكان معظمها يتحدّث عن الشرك ، والتحذير من دعاء غير الله من الأموات والغائبين ، وبيان حقيقة التوحيد ومعنى لا إله إلا الله ، فإذا بأنوار التوحيد تحرق لجج الظلام في قلبي ، وتقتلع الشرك من جذوره ، ومنذ ذلك الحين وأنا أحرص على قراءة الكتب النافعة ، وسماع الأشرطة المفيدة ، وأعبّ منها عبّاً ، كالذي وجد الماء الزلال بعد عطش شديد كاد يودي بحياته .
ثمّ بدأت أحضر حلقات العلم في المساجد ، وأتعلّم العقيدة السلفية النقيّة على يد من نذروا أنفسهم لنشر التوحيد، ومحو الشرك ، وكما جرت سنّة الله عزّ وجلّ في سائر العصور أن كلّ من دعا إلى التوحيد الخالص لا بدّ أن يؤذي ويُفترى عليه ، وتوجّه إليه التهم ، فقد أُوذينا في الله ، وواجهنا كثيراً من المصاعب ، وكانت الأعين تراقبنا ، والدعايات الكاذبة تلاحقنا من قبل أهل الأهواء والبدع ، فقد كان شغلهم الشاغل هو : ماذا يشيعون علينا من أخبار سيئة ، وافتراءات أثيمة ، فلم نأبه لهذه الافتراءات بل بدأنا – ولله الحمد – ننتشر في مساجد القرية ، ونقيم الدروس والمواعظ المختصرة بقدر ما فتح الله علينا من العلم ، وبدأ أنصار التوحيد والسنّة يتزايدون ، ثمّ بدأنا بالدعوة الفردية لأعيان البلد من أهل الشرك والشعوذة والسحر الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ، فأخذتهم العزّة بالإثم ، وقابلوا النصح والتذكير بالسبّ والشتم والتهديد ، بل بعضهم هدّد بالقتل ، وهكذا وقف الجميع ، إلا من رحم الله – في وجه هذه الدعوة ، حتّى أُدخلنا السجن في بعض الفترات ، وأراد منّا من يدّعي الإصلاح أن نتأسف لمن نصحناه ، ونقبّل يده وركبته (!) ، فامتنعنا أشدّ الامتناع ، وقلنا بكلّ وضوح : لا دناءة في دين الله .
ومع هذا كلّه ، فلله الحمد والشكر ، فقد أدّت هذه النصائح ثماراً طيبة ، فقد قبلها بعض الناس ، وترك ما هو فيه من ضلال وشرك . وما زلنا – ولله الحمد – ندعو إلى الله عزّ وجلّ بما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعا إليه سلف الأمّة رضوان الله عليهم ، نسأل الله أن يثبتنا على دينه .
أخوكم أبو عبد الله من اليمن .