جي ميشيل (36 سنة) مسئول هيئة تنصيرية جاءت من ألمانيا الغربية للعمل في الصومال، ولأن البعثة جاءت للعمل فكان لابدّ من تسميتها بعثة (المشروع الوطني لمحاربة الأمراض العمى) كان ميشيل من النابغين في الإشراف على فريق التمريض، لذلك لم يفاجأ بخبر تعيينه مسئولاً للبعثة إضافةً إلى إدارة المشروع، تحركت البعثة في منتصف عام 1978م وأمامها خريطة للتنصير في القرن الإفريقي تحت لافتة: (محاربة أمراض العمى). حديث (ميشيل) يأتي عذباً صافياً لأنه نابع من القلب، ولأن حديثي يختلف بالتأكيد عن حديث (ميشيل) من حيث الصدق والإحساس سأتركه لكم:
يقول جي ميشيل:
سعادتي بالصومال والصوماليين كانت كبيرة، ربما لحسن استقبالهم لنا، وربما لإحساسنا بمدى الفقر الذي يعانونه في الوقت الذي يعتزون فيه بأنفسهم، كما لو كانوا من أثرى الأثرياء، ربما لوجوههم الطيبة التي تستطيع رغم سمرتها أن تترجم كل حركة أو إشارة صادرة منها بسهولة.
أشياء كثيرة كانت وراء فرحتي بمكان المهمة.
يبدو أنني في زحمة انشغالي بالعمل وفرحتي واحترامي للشعب الصومالي نسيتُ مهمتي الأصلية، التي جئت وجاء الفريق من أجلها! فبسرعة عجيبة كان لي أصدقاء مسلمون يسألون عني وأسأل عنهم، تفانيت في محاربة أمراض العمى، وأشرفت على علاج عشرات الحالات، وكانت كلمات المديح والإطراء تخرج من كل الأفواه أثناء مروري على أي تجمع أو في أي شارع، كنت أفهم كلماتهم رغم أنها صادرة بلغة غير لغتي لكنها لغة الإحساس، في زحمة ذلك كله وبعد خمسة أشهر من النجاح الباهر في محاربة العمى جاءتني برقية من قصر رئاسة المنظمة الألمانية التي تتولى تنفيذ المشروع من ألمانيا!
قلت لنفسي: لعلها بشرى سارة فقد أمروني بالعودة فوراً، ربما ليشكروني على التفاني في العمل، وربما ليقدموا لي ولأفراد الفريق هدايا أو أوسمة. لم أستطيع أن أفسر طلبهم العجيب بضرورة توجهي إلى إنجلترا لأخذ دورة جديدة تساعدني في إنجاح مهمتي، إن مهمتي ناجحة تماماً والعمل هناك يمضي بصورة رائعة فما جدوى هذه الدورة مع رجل مثلي كان الأول على كل الدورات السابقة؟ لم أستطع التفسير وبالتالي لم أستطع الرد بأكثر من نعم. سافرت إلى إنجلترا وأمضيت هناك شهراً كاملاً، وعدتُ إلى ألمانيا الغربية وأنا أتوق إلى أوامر بعودتي إلى الصومال، وبعد أسبوع جاء الأمر: توجه إلى تنزانيا! ومرة أخرى لا أجد تفسيراً لتوجهي إلى تنزانيا رغم نجاحي في الصومال، ولأنني لم أناقشهم في سبب ذلك. اطمأنوا تماماً لي وأرسلوا لي برقية بعد أربعة أسابيع يطلبون فيها عودتي إلى الصومال، وبكيتُ فرحاً!
عدتُ إلى الصومال بعد خمسة أشهر من الانقطاع عن الوجوه الطيبة والقلوب الدافئة، التحقتُ بالمشروع على الفور، ومارستُ عملي وإشرافي، كانتْ فرحةُ الصوماليين بعودتي تكاد تقترب من فرحة مريض بمرض في عينه وتم علاجه، ولولا اتهامي بالمبالغة لقلتُ أن فرحتهم بي كانت كفرحة الأعمى بعودة البصر إلى عينيه، هذا ما أحسستُ به خاصةً من صديقي (محمد باهور).
دعاني (محمد باهور) لزيارة منزله، وهناك كان الترحيب بي من أسرته ومن جيرانه رائعاً، وفوجئتُ أثناء جلوسي معهم برجل يتحدث الإنجليزية بشكل جيد، فرحتُ كثيراً بذلك وفرحت أكثر عندما علمتُ أنه والد (محمد) ها هي الفرصة تتحقق وها هو الجزء الثاني والأهم في مهمتي إلى الصومال سيتحقق! إن اللغة تقف عائقاً كبيراً في عملية التنصير لكن وجود مثل هذا الرجل سيساعدني كثيراً في شرح أبعاد التبشير بالنصرانية خاصةً وأن هذا الرجل يحترمه الجميع ويقدّرونه بصورة تكاد تقترب من الخوف!
وبدأتُ مع هذا الرجل الذي توقعتُ أن يكون مفتاحَ التبشير والتنصير في المنطقة كلها، قلت لنفسي فلأبدأ معه بالحديث عن الأديان عموماً وأنتقل للحديث عن الإنجيل وعن المسيح الذي أدركتُ واكتشفتُ أكثر من مرة أن المسلمين جميعاً يحبونه ويعترفون به! ولا أدري ماذا حدث وكيف اكتشف هذا الرجل أن حديثي معه سيكون عن الأديان! قبل أن أبدأ حديثي وجدته ممسكاً بنسخة من (القرآن) في يديه وسألني: أتعرفُ هذا الكتاب؟ ابتسمتُ ولم أجب خشية إثارته أو التلميح له بمهمتي! مرة أخرى أحسستُ أن الرجل يدرك ما يدور بعقلي منحني فرصةَ الخروج من المأزق وبدأ هو يتحدث عن الإنجيل وعن المسيح، وطلب مني أن أوجه له أي سؤال أريد الإجابة عنه سواء في الإنجيل أو في القرآن! قلت: كيف؟ قال: في القرآن كل شيء!
انتهتْ زيارتي وعدتُ إلى عملي ثم إلى مقر إقامتي وأنا أفكر في كيفية اختراق عقل وفكر هذا الرجل، إنني لو نجحتُ في ذلك سأكون بلا شك قد قطعتُ شوطاً كبيراً وسيسهل بعد ذلك اصطياد الواحد تلو الآخر عدتُ إلى بعض النشرات والكتيبات، وسخرتُ من نفسي وأنا أشعر وكأني تلميذ مقبل على امتحان خطير! طمأنت نفسي وقلت: إنها مهمة بسيطة ويبدو أنني أضخّمها أكثر من اللازم، إن السيطرة على تفكير رجل مثل والد محمد مسألة سهلة، هي بالتأكيد سهلة وخرجتُ إلى عملي، أنهيته وبدأتُ في البحث عن (محمد باهور) طامعاً في وعد بزيارة جديدة حتى ألتقي بالرجل (المفتاح).
كان الموعد وكان اللقاء وكانت البداية المباغتة: فور جلوسي سألني الرجل عن طبيعة مهنتي فقلتُ: الطب! قال لي: إن (القرآن الكريم) يشرح بالتفصيل عملية (الخلق) و (النشأة) وكل ما يحدثُ في الإنسان من تغيرات! قلتُ: كيف؟ وكأن الرجل كان ينتظر الإشارة الخضراء، اندفع يتحدثُ بلغة إنجليزية جيدة، وليس هذا مهماً، لكن المهم أنه كان يتحدث بإحساس شديد لكل كلمة تخرج من فمه. أقول لكم بصراحة أنني دهشتُ لدرجة الانبهار بكتاب (عمره) أكثر من 1400 عام يتحدث عن كيفية نمو الجنين في رحم المرأة! لقد درستُ لسنوات طويلة وتدربتُ تدريباً شاقّاً وأعرف مراحل نمو الجنين، لكن ما ذكره هذا الرجل شدني كثيراً وقد آلمني ذلك كثيرا!!
كالعادة طمأنت نفسي وهدأتُ من روعها حتى أستطيع النوم، أوكلتُ بعض مهامي في العمل للفريق، وبدأت أفكر كيف أنجح في الجزء الثاني من المهمة (التنصير) مثلما نجحتُ في الجزء الأول منها (محاربة أمراض العمى). صحيح أنني أحب الصومال والصوماليين، لكنني أحب عملي وأحب النصرانية فلماذا لا أجذبهم إليها.
من جديد اضطررتُ لأن أطلب محمد (محمد باهور) أن أزوره، لكنني قبل أن أطلب منه ذلك فوجئتُ به يطلب مني أن أزور والده يومياً إن أمكنني ذلك لأنه يريدني ويحب دائماً الجلوس معي! فرحتُ في البداية لكنني قلتُ لنفسي: كيف أفرح وأنا حتى الآن لم أتمكن من السيطرة عليه، إنه هو البادئ دائماً فلماذا لا أبدأ أنا بالهجوم أو بالغزو؟
لن أحكي لكم تفاصيل ما حدث في الزيارة الثالثة والرابعة والخامسة لقد وجدتني محاصراً تماماً، أذهب إلى الرجل وأنا مستعد تماماً للمواجهة لكن حديثه وصدقه وقدرته الفائقة على الشرح والتوضيح جعلتني أبدو أمامه تلميذاً يسمع دروساً في الدين لأول مرة .
لم أكن أدري أنني مراقب منذ أول زيارة إلى منزل والد (محمد باهور) ويبدو أن المراقبة كانت دقيقة للغاية حتى أنها وصلتْ إلى أن يواجهني أفراد الفريق الطبي ويطلبون مني عدم الذهاب إلى هذا المنزل أو الاتصال بهذه العائلة.
اكتملتْ المراقبة وتوِّجتْ بقرار صادر من ألمانيا الغربية ينص على ضرورة مغادرتي للمعسكر! وقبيل تنفيذ الأمر بيوم واحد اكتشفتُ وجود قرار آخر ينقل (محمد باهور) من عمله إلى مكان آخر!
لم تكن هناك قوة تستطيع أن تمنعني من أن أحب (محمد باهور) وأحب والده وأسرته وأحب الصوماليين جميعاً، مكثتُ في مقديشو أياماً معدودة، وكنت أتسلل ليلاً وأركب شاحنة أخرى حتى أصل إلى منزل عائلة (محمد) لكن ذلك لم يدم طويلاً، فقد قام رئيس فريق العمل الألماني بدفع أموال كبيرة لبعض مسئولي الأمن بالمنطقة، وذلك لمنعي من الوصول إلى هذه المنطقة، وعندما نجحتُ في إقناع مسؤولين آخرين على قدر من التقوى والجدية في العمل كان الخبر المؤلم، لقد تم اعتقال (محمد) لعلاقته بي!
بكيتُ كثيراً من أجل (محمد) وتألمتُ كثيراً من عدم تمكني من مواصلة المشوار مع والده للنهاية، كنت أريد أن أصل إلى نهاية، أو بمعنى أوضح إلى بداية، فإما نهاية للشكوك التي بدأتْ تتسرب إلى عقلي من حديث هذا الرجل، وإما بداية لرحلة جديدة! أثناء ذلك جاءتني برقية أخرى من ألمانيا تطلب مني مغادرة الصومال خلال أيام والانتقال إلى كينيا لتقضية (إجازة ممتعة)!
تعللت بضرورة أخذ بعض أوراقي من مكان المعسكر وأبلغت مسؤول الأمن بذلك، وفور دخولي توجهتُ إلى منزل (محمد باهور).
وجدتُ في المنزل فرحة غير عادية، قال لي الوالد لقد جئتَ مع إطلالة شهر الخير والبركة، سألتُه عن هذا الشهر فقال إنه رمضان! تناولت وجبة (السحور) معهم وقبيل الفجر شاهدتُّ المنطقة كلها تخرج للصلاة! مكثتُ معهم يوماً كاملاً واضطررتُ احتراماً لمشاعرهم أن أصوم لأول مرة في حياتي يوماً كاملاً عن الطعام والشراب!
وفي (نيروبي) وجدتُ في المطار من يستقبلني ويخبرني بأنني سأقيم في منزل كبير بدلاً من الفندق، وكانت الحفاوة بي واضحة، لكنني بعد عدة أسابيع أخبرتُ بخبر آخر أشد ألماً. جاءت البرقية تقول: (لن تستطيع العودة مرة أخرى إلى الصومال لأسباب أمنية)! لماذا؟ كيف؟ ولمصلحة من هذا القرار؟ لم أجد من يجيبني عن تساؤلاتي. هدأتُ قليلاً وأنا أذكر موقف (محمد) ووالده وأسرته معي وأتذكرُ كل الوجوه الصومالية التي التقيتُ بها. ووصلتني رسالة ساخنة من والدي يطالبني فيها بالعودة إلى ألمانيا بأسرع ما يمكن، كانت سطور الرسالة تقول أو توحي بأن والدي تلقى ما يفيد خطورة موقفي إذا سافرتُ إلى الصومال!
اكتشفتُ كذلك أن الرئاسة في ألمانيا الغربية لديها تقرير مفصل عني وعن تحركاتي الكاملة، واتخذت قراري!
قارنتُ بين ما يحدث في ألمانيا وما يحدث في الصومال من لهفة الناس عليّ وقلقهم البالغ وسؤالهم المستمر عني وأغلقتُ بابي على نفسي ورحتُ أراجع الدروس التي سمعتها من والد محمد.
جهزتُ ورقة بيضاء ناصعة وأحضرت القلم وكتبتُ هذه البرقية إلى رئاستي في ألمانيا الغربية: اطمئنوا تماماً كل شيء على ما يرام. سأعتنق الإسلام.
وضعتُ رسالتي في صندوق البريد لأنهي رحلة من القلق والتوتر، كنتُ أشعر وأنا أتوجه إلى صندوق البريد وكأنني عريس في يوم زفاف، وتوجهتُ إلى أصدقائي في (نيروبي) قلتُ لهم: قررتُ العودة إلى الصومال مهما كلفني ذلك! سأعود حتى ولو أدى ذلك إلى قتلي! كان من الطبيعي ألا أجد شيئاً أنفذ به قراري بالعودة، بعت حاجاتي وملابسي كلها باستثناء ما أرتديه، وثلاثة أحذية كنتُ أحضرتها معي، وتمكنتُ من تحصيل سعر التذكرة إلى الإيمان! نعم فقد وصلتُ إلى مقديشو ومنها إلى منزل الوالد (باهور) وفور أن عانقني قلتُ هامساً: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله)!.
لم يكن لدي وقتاً للفرح، عكفتُ على الدراسة والحفظ الجيد للقرآن الكريم والأحاديث الشريفة وكان إعجاب الصوماليين بي شديداً ولأن المسؤولين في المنطقة جزء من نسيج هذا الشعب فقد نجحوا في استصدرا قرار يسمح لي بالتحرك والانتقال والتعايش مع الصوماليين في أي وقت وفي أي مكان كشقيق وأخ مسلم اسمه الجديد (عبد الجبار). الآن فقط فكرتُّ في المشروع الذي كنا نقوم بتنفيذه لقد توقف المشروع بحمد الله دون أن ينجح في الجزء الثاني أو الأول منه وهو الخاص بالتنصير، لكنه حقّق نجاحات باهرة في الجزء الخاص بالعلاج، لذلك لم أفاجأ بموافقة الدكتور عبد الله نصيف الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة على أن أواصل العمل في المشروع في وجهه الجديد وجه الخير والعمل الخالص لوجه الله، وها أنا أعود!).